سورة الأحزاب - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)} [الأحزاب: 33/ 56- 58].
هذه الآية أظهرت مكانة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عند الله والملائكة، فإن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان، والملائكة تدعو له بالمغفرة وعلو الشأن، لذا فأنتم أيها المؤمنون مأمورون بالصلاة والسلام عليه تسليما كثيرا مباركا فيه. والصلاة من الله تعالى: رحمة منه وبركة، وصلاة الملائكة: دعاء وتعظيم، وصلاة الناس: دعاء واستغفار.
وصفة الصلاة على رسول الله: تظهر فيما أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: قال رجل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».
والصلاة والسلام على النبي واجبة مرة في العمر، عملا بالأمر المقتضي للوجوب، وهو: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} وهي حينئذ مثل كلمة التوحيد، لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما يدل على الماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرة. ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله في المناسبات المختلفة ولا سيما في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلّى اللّه عليه وسلم، وبعد النداء للصلاة، وفي صلاة الجنازة.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يصلّ علي».
وشأن التشريف والتعظيم للنبي من الله وملائكته والأمر بالصلاة والسلام عليه، يستوجب تحريم الأذى والإخلال بقدره، لذا عقب الله ذلك بالتهديد بالعقاب لكل مؤذ، فإن الذين يصدر منهم إيذاء الله ورسوله، لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وأبعدهم عن كل خير، وأعد لهم عذابا ذا إهانة وإذلال وتحقير في نار جهنم. وإيذاء الله معناه: الكفر به، ونسبة الصاحب والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به.
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه في الآية: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل: «شتمني ابن آدم، ولم ينبغ له أن يشتمني، وكذبني ولم ينبغ له أن يكذبني، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني»، أي إنه ينكر البعث.
وإيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم: يكون بما يؤذيه من الأقوال والأفعال، كأن يقال عنه: إنه ساحر، أو شاعر، أو كاهن أو مجنون.
وروي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في تزوجه صفية بنت حيي بن أخطب.
ثم ذكر الله تعالى عقاب المؤذين لأهل الإيمان، فإن الذين يصدر منهم الأذى للمؤمنين والمؤمنات بالأفعال والأقوال القبيحة، والبهتان، والكذب الفاحش المختلق، سواء فيما يمس العرض أو الشرف أو المال، بأن ينسبوا إليهم ما لا علم لهم به ولم يفعلوه، فإنهم تحملوا البهتان أي الفعل الشنيع، أو الكذب الشائن، وارتكبوا ما يوجب الوقوع في الإثم والذنب الواضح.
ومن أشد أنواع الأذى للمؤمنين: الطعن بالصحابة، والغيبة، واستباحة عرض المسلم، والتعييب والتحقير، والإنقاص، والهمز واللمز، والإتلاف والاعتداء على النفس والمال. ويستثني من ذلك حالة الرعاية والتأديب لأغراض شريفة أو كريمة.
إن صون حرمة المؤمن واجب شرعي، وأدب أخلاقي كريم، لا سيما في أثناء الغيبة.
وإن إيذاء الله بالكفر به، وإيذاء الرسول بالطعن بشيء من تصرفاته، أو الإساءة لأهله، جرم عظيم وفعل شنيع.
الحجاب وجزاء المنافقين:
لا يمكن لأحد الادعاء بأن المرأة ليست فتنة للرجل، بشعرها وسواعدها وأرجلها وسائر جسدها، بدليل إدامة النظر إليها ما لم يكن هناك شاغل أو مانع خلقي أدبي أو ديني، والواقع خير شاهد، ولا مكابرة فيه وبرهان ذلك الأمر الإلهي الدائم بغض النظر من الرجل والمرأة، لذا نظم الشرع الحنيف العلاقة بين الرجل والمرأة، فأقامها على الحق والعدل، وصان المرأة من كل ذرائع الافتتان بها أو إيذائها، وذلك بما لا داعي لستره وهو جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين، على المعتمد المحقق شرعا.
وأما المنافقون فهم أداة إفساد وتفريق، وداء مرضي ضار، فكان من الطبيعي كشفهم أمام المجتمع، وزجرهم بما يستحقون، وتهديدهم بالعقاب المناسب، قال الله تعالى مبينا فرضية الحجاب الشرعي بحدوده المعتدلة وحكم أهل النفاق:


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)} [الأحزاب: 33/ 59- 62].
يأمر الله النبي بتبليغ زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بإرخاء الستر عليهن وتغطيتهن بالحجاب الشرعي: وهو الجلباب، أي الرداء الساتر لجميع الجسد ما عدا الوجه والكفين، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة، ويحميها من أذى الفساق، ويميز الحرائر عن الإماء كما كان في الماضي، وكان الله وما يزال واسع المغفرة لما سلف من إهمال التستر، عظيم الرحمة بعباده، حيث أرشدهم إلى هذا الأدب الرفيع فقد كانت عادة العربيات في الجاهلية التبذل في الستر، وكشف مواطن الزينة، فبدل الإسلام بالتبرج: الصون والستر المناسب.
روي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصّعدات (كالمصاطب) لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت الآية بسبب ذلك.
ثم توعد الله المنافقين (الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر) فلئن لم يكفوا عما هم عليه من النفاق فلنسلطنك عليهم، هم والذين في قلوبهم مرض (وهو شك وريبة في أمر الدين وحب الزنا) وأهل الإرجاف في المدينة (وهم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة، بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سيغلب، ونحو هذا مما يضعف نفوس المؤمنين) ثم لا يجاورونك أيها النبي إلا جوارا قليلا ووقتا قليلا.
وهم في حال إقامتهم في المدينة زمنا قليلا يكونون مطرودين من رحمة الله، منبوذين، أينما حوصروا وقدر عليهم، أسروا وأخذوا أذلاء، وقتلّوا شر تقتيل، فلم يجدوا أحدا يؤويهم، بل ينكل بهم ويؤسرون.
وهذا الحكم وهو لعن المنافقين وأسرهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم، هو سنة الله وطريقته في المنافقين في كل زمن مضى، وهم منافقو الأمم، ولا تبديل ولا تغيير لسنة الله ونظامه، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة، بل هي سنة ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء مدى الزمان. وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} منصوب على المصدر، أي استنوا بسنة الله تعالى.
يلاحظ من هاتين الآيتين أن الحجاب الشرعي ذا الحدود المعتدلة من غير إفراط ولا تفريط مظهر حضاري كريم، لا يعوق نشاط المرأة، وإسهامها في كل عمل حيوي يفيد المجتمع والأمة.
ويلاحظ أيضا أن الأوصاف الثلاثة: وهي النفاق، ومرض القلب، والإرجاف موجودة كلها في المنافقين. وهم خطر على الأمة في عقيدتها، وفي سلمها وحربها، فهم كالسوس ينخر في جسم الأمة، وهم في السّلم جرثومة فتك وأداة تخريب وتفريق، وفي الحرب أداة إضعاف وإشاعة السوء، وزعزعة المقاتلين، وهم في الواقع عون للأعداء على المسلمين، مما يجب التخلص منهم، وعقابهم أشد العقاب، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء 4/ 145].
جزاء الكفار:
اصطدمت الدعوة الإسلامية إبّان ظهورها بحاجز صلب من شرك المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر، وأنكروا النبوة وإرسال النبي، وجحدوا بوجود يوم القيامة، وأخذوا في توجيه أسئلة التحدي والعناد، والتشكيك بأصول الدين والعقيدة، وحاولوا طمس معالمها، وتوهين بنيتها، فسألوا سؤال مكابرة عن تحديد موعد القيامة، فاستحقوا التهديد والوعيد بالعذاب الأليم، والتعرض لشيّ الوجوه والجلود بالنار، وبادروا في الآخرة لإظهار الندم على ترك إطاعة الله والرسول، وملازمتهم تقليد الآباء والسادة، وطالبوا بمضاعفة العذاب على سادتهم، وهذا ما صرحت به الآيات الكريمة الآتية:


{يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)} [الأحزاب: 33/ 63- 68].
سئل رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم عن وقت الساعة (القيامة) متى هو؟ فلم يجب في ذلك بشيء، ونزلت الآية آمرة أن يردّ العلم فيها إلى الله، إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها.
وهذا السؤال والجواب في حال الاستفسار بحسن نية. لكن تساءل الناس المشركون سؤال تهكم وسخرية واستهزاء، ومعهم المنافقون سؤال تعنت وتنطع، ثم اليهود سؤال امتحان واختبار، فأجابهم الله ونبيه بأن علمها محصور بالله تعالى. ثم توعدهم بقربها بقوله: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} أي ينبغي أن تحذر، فما يعلمك بها، فإنها من المغيبات المختصة بالله تعالى، وربما توجد في وقت قريب. وهذا تهديد للمستعجلين، وتوبيخ لأهل التعنت والتهكم والاختبار. وقوله تعالى: {تَكُونُ قَرِيباً}.
القريب: لفظة واحد، تطلق على الجمع والإفراد والتذكير والتأنيث.
ثم توعد الله الكافرين بعذاب لا ولي لهم فيه ولا ناصر، ومضمونه: إن الله تعالى طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته، وهيّأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والإحراق. وهم في نار جهنم وعذابها خالدون مخلّدون، ماكثون فيه على الدوام، ولا يجدون من يواليهم ويناصرهم وينقذهم أو يخلّصهم من ذلك العذاب.
وأما أوصاف العذاب: فهي رهيبة جدا، إن الكافرين يجرّون في النار على وجوههم، ويتقلّبون فيها كاللحم المشوي على النار، ويظهرون أشد الندامة قائلين: يا ليتنا أطعنا الله ورسوله فيما أمر ونهى. كما جاء في آية أخرى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 54/ 48].
وقال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 25/ 27].
ثم أعلن الكافرون سبب انحراف اعتقادهم، ولاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم، فقالوا وهم في عذاب جهنم: يا ربنا لقد أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعظماءنا وعلماءنا، وخالفنا الرسل، فأضلونا عن طريق الهدى بما زيّنوا لنا من الكفر بالله ورسوله. يا ربنا عذبهم عذابا مضاعفا: عذاب الكفر، وعذاب إضلال غيرهم وإغوائهم إيانا، أي عذبهم عن أنفسهم وعمن أضلوا، وأبعدهم عن رحمتك بعدا كبيرا. وإضلال السبيل: يراد به سبيل الإيمان والهدى، واللعن الكبير:
أي العنهم مرات كثيرة.
إذا كان هذا هو مصير الضالين والمضلين في الآخرة، فلم لا يبادر الفريقان إلى ترك الضلال والإضلال، فالداعي إلى الضلال يقلع عن مساعيه الشريرة في إضلال الآخرة، والمدعو للضلال يتخلص من تأثيرات المضلين، ويبتعد عن أقوالهم وأفعالهم وجميع إغراءاتهم وأضاليلهم، فإذا فعلوا ذلك في الدنيا دار التكليف والاختبار، نجّوا أنفسهم من سوء العذاب وسوء المصير.
تحريم الإيذاء وأداء الأمانات:
لقد زخر القرآن العظيم بتوجيهات المؤمنين إلى أقوم السبل، مبتدئا من التخلي عن الحرام، وذلك بتحريم الإيذاء، ثم تقويم النفوس على هدي الله وتقواه بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، ثم تحريض كل إنسان على أداء أمانة التكليف الإلهي على أقوم الوجوه وأسلم الطرق، فيؤول أمر الناس أو يصير إلى إثابة المؤمنين المستقيمين على درب الطاعة، وتعذيب الكافرين والمنافقين والمشركين الوثنيين. وهذه عملية إفراز وعزل، يتميز بها كل فريق عن الآخر، بالمزايا أو الصفات التي تؤهله إلى مصير معين: حسن كريم، أو سيّئ مشؤوم، قال الله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6